سورة هود - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{وَيَا قَوْمِ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على ما قلته في أثناء دعوتِكم {مَالاً} تؤدّونه إليّ بعدِ إيمانِكم واتباعِكم لي فيكونَ ذلك أجراً لي في مقابلة اهتدائِكم {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} الذي يُثيبني في الآخرة، وفي التعبير عنه حين نُسب إليهم بالمال ما لا يخفى من المزية {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ} جوابٌ عما لوّحوا به بقولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} من أنه لو اتبعه الأشرافُ لوافقوهم وأن اتّباعَ الفقراءِ مانعٌ لهم عن ذلك كما صرّحوا به في قولهم: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الارذلون} فكان ذلك التماساً منهم لطردهم وتعليقاً لإيمانهم به عليه الصلاة والسلام بذلك أنفَةً من الانتظام معهم في سلك واحد {إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبّهِمْ} تعليلٌ لامتناعه عليه السلام عن طردهم أي إنهم فائزون في الآخرة بلقاء الله عز وجل كأنه قيل: لا أطرُدهم ولا أُبعِدُهم عن مجلسي لأنهم مقرَّبون في حضرة القدسِ، والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ لتربية وجوبِ رعايتِهم وتحتّمِ الامتناعِ عن طردهم، أو مصدِّقون في الدنيا بلقاء ربِّهم موقنون به عالِمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطرُدهم. وحملُه على معنى أنهم يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيحٍ ثابتٍ كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرِفونهم به من بناء إيمانِهم على بادي الرأي من غير نظرٍ وتفكّر، وما عليّ أن أشقَّ عن قلوبهم وأتعرَّفَ سرَّ ذلك منهم حتى أطرُدَهم إن كان الأمرُ كما تزعُمون يأباه الجزمُ بترتّب غضب الله عز وجل على طردهم كما سيأتي وأيضاً فهم إنما قالوا إن اتباعَهم لك إنما هو بحسب بادي الرأي بلا تأمل وتفكرٍ، وهذا لا يكاد يصلُح مداراً للطرد في الدنيا ولا للمؤاخذة في الآخرة، غايتُه أن لا يكونوا في مرتبة الموقنين، وادعاءُ أن بناءَ الإيمانِ على ظاهر الرأي يؤدّي إلى الرجوع عنه عند التأملِ فكأنهم قالوا إنهم اتبعوك بلا تأمل فلا يثبُتون على دينك بل يرتدون عنه تعسفٌ لا يخفى.
{ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} بكل ما ينبغي أن يُعلم، ويدخُلُ فيه جهلُهم بلقاء الله عز وجل وبمنزلتهم عنده وباستيجاب طردِهم لغضب الله كما سيأتي وبركاكة رأيِهم في التماس ذلك وتوقيفِ إيمانهم عليه أنفةً عن الانتظام معهم في سلك واحدٍ وزعماً منهم أن الرذالة بالفقر والشرفَ بالغنى. وإيثارُ صيغةِ الفعلِ للدلالة على التجدد والاستمرارِ، أو تتسافهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخَساسة.


{وياقوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} بدفْع حلولِ سخطِه عني {إِن طَرَدتُّهُمْ} فإن ذلك أمرٌ لا مردَّ له لكون الطرد ظلماً موجباً لحلول السّخط قطعاً، وإنما لم يُصرَّح به إشعاراً بأنه غنيٌّ عن البيان لا سيما غِبَّ ما قُدّم ما يلوحُ به من أحوالهم فكأنه قيل: مَنْ يدفعُ عني غضبَ الله تعالى إن طردتُهم وهم بتلك المثابةِ من الكرامة والزُلفى كما ينبىء عنه قوله تعالى: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أتستمرّون على ما أنتم عليه من الجهل المذكورِ فلا تتذكرون ما ذُكر من حالهم حتى تعرِفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب، ولكون هذه العلةِ مستقلةً بوجه مخصوصٍ ظاهر الدلالةِ على وجوب الامتناعِ عن الطرد أُفردت عن التعليل السابقِ وصُدّرت بيا قوم {وَلا أَقُولُ لَكُمْ} حين أدّعي النبوة {عِندِى خَزَائِنُ الله} أي رزقُه وأموالُه حتى تستدلوا بعدمها على كذبي بقولكم: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين} فإن النبوةَ أعزُّ من أن تنال بأسباب دنيويةٍ ودعواها بمعزل عن ادعاء المالِ والجاه {وَلا أَعْلَمُ الغيب} أي لا أدعي في قولي: {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} علمَ الغيبِ حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد.
{وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ} حتى تقولوا: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} فإن البشريةَ ليست من موانع النبوةِ بل من مباديها يعني أنكم اتخذتم فُقدانَ هذه الأمورِ الثلاثة ذريعةً إلى تكذيبي والحال أني لا أدعي شيئاً من ذلك ولا الذي أدّعيه يتعلق بشيء منها وإنما يتعلق بالفضائل النفسانيةِ التي بها تتفاوت مقاديرُ البشرِ {وَلا أَقُولُ} مساعدةً لكم كما تقولون {لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ} أي تقتحِمهم وتحتقرِهم من زراه إذا عابه، وإسنادُ الازدراءِ إلى أعينهم {إما} بالنظر إلى قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} وإما للإشعار بأن ذلك لقصور نظرِهم ولو تدبروا في شأنهم ما فعلوا ذلك أي لا أقول في شأن الذين استرذلتموهم لفقرهم من المؤمنين {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله أن يُؤتيهَم خيري الدارين.
إن قلتَ: هذا القولُ ليس مما تستنكره الكفرةُ ولا مما يتوهمون صدورَه عنه عليه السلام أصالةً أو استتباعاً كادعاء المِلْكية وعلمِ الغيب وحيازة الخزائنِ مما نفاه عليه الصلاة والسلام عن نفسه بطريق التبرؤ والتنزه عنه فمِنْ أيِّ وجه عطُف نفيُه على نفيها؟ قلتُ: من جهة أن كِلا النفيَيْن ردٌّ لقياسهم الباطلِ الذي تمسّكوا به فيما سلف فإنهم زعَموا أن النبوةَ تستتبع الأمورَ المذكورةَ وأنها لا تتسنى ممن ليس على تلك الصفات فإن العثورَ على مكانها واغتنامَ مغانمِها ليس من دأب الأراذلِ فأجاب عليه الصلاة والسلام بنفي ذلك جميعاً فكأنه قال: لا أقول وجودُ تلك الأشياءِ من مواجب النبوةِ ولا عدمُ المالِ والجاهِ من موانع الخير {الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ} من الإيمان، وإنما اقتُصر على نفي القولِ المذكورِ من أنه عليه الصلاة والسلام جازمٌ بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيراً عظيماً في الدارين وأنهم على يقين راسخٍ في الإيمان جرياً على سنن الإنصافِ من القوم واكتفاءً بمخالفة كلامِهم وإرشاداً لهم إلى مسلك الهدايةِ بأن اللائقَ لكل أحدٍ أن لا يبُتَّ القولَ إلا فيما يعلمه يقيناً ويبني أمورَه على الشواهد الظاهرةِ ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة {إِنّى إِذاً} أي إذا قلتُ ذلك {لَّمِنَ الظالمين} لهم بحطِّ مرتبتِهم ونقصِ حقوقِهم أو من الظالمين لأنفسهم بذلك فإن وبالَه راجعٌ إلى أنفسهم وفيه تعريضٌ بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالِهم، وقيل: إذا قلتُ شيئاً مما ذكر من ادّعاء المِلْكية وعلمِ الغيب وحيازةِ الخزائن، وهو بعيدٌ لأن تبعةَ تلك الأقوالِ مغنيةٌ عن التعليل بلزوم الانتظامِ في زمرة الظالمين.


{قَالُواْ يا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا} خاصمتنا {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي أطَلْته أو أتيتَه بأنواعه فإن إكثارَ الجدالِ يتحقق بعد وقوعِ أصلِه فلذلك عُطف عليه بالفاء أو أردتَ ذلك فأكثرتَه كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله} ولما حجّهم عليه الصلاة والسلام وأبرز لهم بيناتٍ واضحةَ المدلولِ وحُججاً تتلقاها العقولُ بالقَبول وألقمهم الحجرَ برد شُبهِهم الباطلةِ ضاقت عليهم الحيلُ وعيّت بهم العللُ وقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب المعجّلِ أو العذابِ الذي أشير إليه في قوله: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} على تقدير أن لا يكون المرادُ باليوم يومَ القيامة {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} فيما تقول {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} يعني أن ذلك ليس موكولاً إليّ ولا هو مما يدخُل تحت قدرتي وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به وعصيتموه يأتيكم به عاجلاً أو آجلاً إنْ تعلَّق به مشيئتُه التابعةُ للحكمة، وفيه ما لا يخفى من تهويل الموعودِ فكأنه قيل: الإتيانُ به أمرٌ خارجٌ عن دائرة القُوى البشرية وإنما يفعله الله عز وجل.
{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بالهرب أو بالمدافعة كما تدافعونني في الكلام {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} النُصحُ كلمةٌ جامعةٌ لكل ما يدور عليه الخيرُ من قول أو فعل، وحقيقتُه إمحاضُ إرادةِ الخيرِ والدِلالةِ عليه، ونقيضُه الغشُّ وقيل: هو إعلامُ موقع الغَيِّ ليُتّقى وموضعِ الرشد ليقتفى {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} شرطٌ حذف جوابُه لدلالة ما سبق عليه، والتقديرُ إن أردتُ أن أنصحَ لكم لا ينفعُكم نُصحي وهذه الجملةُ دليلٌ على ما حذف من جواب قولِه تعالى: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} والتقديرُ إن كان يريد أن يُغوِيَكم فإن أردتُ أن أنصحَ لكم لا ينفعكم نصحي، هذا على ما ذهب إليه البصريون من عدم تقديم الجزاءِ على الشرطِ، وأما على ما ذهب إليه الكوفيون من جوازه فقوله عز وعلا: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} جزاءٌ للشرط الأولِ، والجملةُ جزاءٌ للشرط الثاني وعلى التقديرين فالجزاءُ متعلّقٌ بالشرط الأولِ وتعلّقه به معلّقٌ بالشرط الثاني، وهذا الكلامُ متعلِّقٌ بقولهم: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} صدر عنه عليه الصلاة والسلام إظهاراً للعجز عن إلزامهم بالحجج والبيناتِ لتماديهم في العناد، وإيذاناً بأن ما سبق منه ليس بطريق الجدالِ والخصامِ بل بطريق النصيحةِ لهم والشفقةِ عليهم وبأنه لم يألُ جهداً في إرشادهم إلى الحق وهدايتِهم إلى سبيله المستبينِ وإمحاضِ النصحِ لهم ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادة الله تعالى لإغوائهم، وتقييدُ عدمِ نفع النصحِ بإرادته مع أنه محققٌ لا محالة للإيذان بأن ذلك النصحَ منه مقارِنٌ للإرادة والاهتمامِ به ولتحقيق المقابلةِ بين ذلك وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم، وإنما اقتُصر في ذلك على مجرد إرادةِ الإغواءِ دون نفسِه حيث لم يقل: إن كان الله يغويكم مبالغةً في بيان غلبةِ جنابِه عز وعلا حيث دل ذلك على أن نُصحَه المقارِنَ للاهتمام به لا يُجديهم عند مجردِ إرادةِ الله سبحانه لإغوائهم، فكيف عند تحقيقِ ذلك وخلقِه فيهم.
وزيادةُ كان للإشعار بتقدم إرادتِه تعالى زماناً كتقدّمها رتبةً وللدلالة على تجدّدها واستمرارِها، وإنما قُدّم على هذا الكلامِ ما يتعلق بقولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} رداً عليهم من أول الأمرِ وتسجيلاً عليهم بحلول العذابِ مع ما فيه من اتصال الجوابِ بالسؤال، وفيه دليلٌ على أن إرادتَه تعالى يصِحّ تعلقُها بالإغواء وأن خلافَ مرادِه غيرُ واقع، وقيل: معنى أن يغويَكم يُهلكَكم، من غوَى الفصيلُ غوًى إذا بشِم وهلك {هُوَ رَبُّكُمْ} خالقُكم ومالكُ أمركم {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم على أعمالكم لا محالة.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10